الاثنين، 24 فبراير 2014

الفجوة الفكرية بين الأجيال


مع مرور السنين واختلاف العصور نجد أن كل جيل له خصائصه وأن الزمن الذي يعيشه هو الأفضل وأنه يتمتع بخصوصية كبيرة الأمر الذي ساعد على اتساع الفجوات بين الاجيال نتيجة التطور السريع الذي نشهده، وأصبح هناك الغاء كبير للعديد من الحواجز التي ارتبطت بالتكنولوجيا التي جعلت الجميع يطّلع على الاخبار وما يحدث بين الناس وكأنهم ينظرون اليها من شباك منزلهم. وفي هذا المقال سأناقش مفهوم الفجوة الفكرية بين الأجيال, مظاهرها وآثارها وأخير سأسلط الضوء على بعض الحلول المقترحة لهذه المشكلة.

مفهوم الفجوة الفكرية بين الأجيال:
مفهوم الأجيال يعبر عن حالة عمرية ومسافة زمنية تفصل بين جيل وآخر, والعنصر الأساسي الذي يميز كل جيل عن الآخر هو الثقافة أي وجود نمط معين من التفكير والقيم والرغبات والطموحات وبمعنى آخر وجود نظرة معينة إلى العالم والمجتمع والحياة وحصيلة هذه الأفكار والقيم والرغبات تحدد هوية كل جيل وتميزه عن الآخر. وفي هذا الإطار أوضحت دراسة أكاديمية بعنوان "ما المقصود بصراع الأجيال؟" وتمت الإشارة إلى أن المسألة ليست في التسمية بحد ذاتها بل في واقع العلاقات الاجتماعية الثقافية التاريخية بين الأجيال حيث لها أبعاد تربوية واجتماعية ونفسية وثقافية وسياسية. وغالبا ما يفضل استخدام مفهوم الفجوة بين الأجيال بدلا من صراع الأجيال ذلك لأنه بالرغم من كل الاختلافات التي تعتبر طبيعية جدا بل ضرورية فلولاها لما تغير المجتمع ولما تقدم.

مظاهر وآثار الفجوة الفكرية:
المتأمل للوضع الحالي سيدرك للوهلة الأولى أن كل المعطيات والأحداث توحي بأن هناك خلل يتمثل في وجود خط فاصل بين الأجيال ساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في غياب الحوار والتواصل بين الأجيال المختلفة. وتتمركز نقطة الخلاف في مدى تحديد طبيعة هذا الخلاف والأسباب الكامنة وراءه والتي تؤدي الى اتساع الفجوة, والتي تتمثل في التغيرات الاجتماعية والاقتصادية مما يؤدي الى تنوع أشكال النشاط الثقافي والسياسي.
كما أكد الشيخ الدكتور إبراهيم الدرويش الأمين العام لمركز رؤية للدراسات الاجتماعية أن ضعف ثقافة الأسرة التقنية, وضعف ثقافتها الإعلامية, أدى لضعف ثقافتها التربوية لجيل هذا العصر والذي ساهم بدوره في اتساع الفجوة بين جيل الأبناء وجيل الآباء, والذي يعد من أهم الأسباب الرئيسية للتفكك الأسري الحاصل في الوقت الراهن. والواقع يقول بأن شباب اليوم يعيشون في مفترق طرق تسبب في الكثير من المشكلات النفسية والفكرية والاجتماعية، وإن من الواضح أن ضعف الأسرة أمام الكثير من المتغيرات الراهنة مثل: الشبكة العنكبوتية, ابتكارات أجهزة الاتصالات والبلوتوث، اليوتيوب, برامج الفضائيات والتلفزيون و مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها الكثير من مستجدات العصر, جعلت الكثير من الآباء والأمهات حتى وإن كانوا متعلمين بل وجامعيين, يعيشون أمية خطيرة أبعدتهم عن وجود نقاط مشتركة للحوار مع الجيل الحالي حيث أن الاهتمامات والميول قد اختلفت وإن لم يبذل جيل الآباء قصار جهده لفهم التوجهات الجديدة للجيل الحالي فإن ذلك سيؤدي الي اتساع هذه الفجوة وسيصبح الالتقاء بينهم مستحيلا.  كل هذه المظاهر جعلت الكثير من الأسر تعيش تفككا أسريا نفسيا وإن كانوا في بيت واحد, لكن ليس هناك انسجام أو تفاهم، أو تقارب في الأفكار و التصورات، فظهرت الكثير من المظاهر الاجتماعية السلبية من انحرافات أخلاقية وعاطفية وفكرية.
ومن جانب آخر برزت مشكلة التباين بين جيل من الآباء المحافظين المتمسكين بالموروث والتقاليد القديمة التي نشؤا عليها، وجيل من الشباب نشأ في ظل انفتاح اجتماعي وثقافي واسع رافقه تطور تقني متسارع، وبالتالي رفض كل ما هو تقليدي وموروث. غير أن المشكلة لا تقف عند حد الاختلاف، بل تتعدى ذلك إلى مستوى الصراع، وتختلف حدة الصراع بين الأجيال باختلاف المجتمعات وباختلاف المراحل التي يمرّ بها كل مجتمع، فهو أكثر شدة في مراحل التغيير السريع كالتي تمرّ بها مجتمعاتنا اليوم، وما تؤدي إليه من تبدل في أنماط القيم والسلوك التي عادة ما يكون الشباب والأجيال الجديدة أكثر استجابة لها من الآباء أو من الكبار عموماً الذين يكونون أقل استعداداً لقبول التغيير، فينشأ هذا التباين بين مفاهيم الجيل القديم والجيل الجديد. وكما أسلفت سابقا بأن هذا الاختلاف بين الأجيال طبيعي وصحي جداً، فلولاه لما تغيّر المجتمع ولما تقدم، وكمؤشر على ذلك لا يفوتنا ملاحظة أن المجتمعات الصناعية والأكثر تقدُّماً هي التي يبلغ فيها الصراع بين الأجيال أشدّه، وفي نفس الوقت هي التي تتغير وتتقدم بوتائر أسرع، وهي الأكثر صحة، والأكثر احتراماً لحريات ولمبادرات الشباب، وهنا ربما نكتشف أن لدينا نزوعاً إلى السلطة أو التحكم، فعندما تنمو هذه النزعة وتتضخم ستتطور إلى صراع مع من يختلف معها، وهذا هو حال جيل الآباء مع جيل الأبناء بالمعنى البيولوجي وبالمعنى الثقافي. و يظهر خوف الكبار على أيام زمان سببه الخوف على السلطة الاجتماعية التي كانت بأيديهم وشعورهم بخسارتها تدريجياً، لذا يجب أن يولدوا القناعات ويدربوا أنفسهم على تقبُل هذا الواقع الحياتي لأولادهم وأحفادهم برضى وتفاعل تام مع المتغيرات الجديدة.
الحلول المقترحة لتقليص الفجوة الفكرية:
وإذا أردنا لهذه الفجوة الفكرية أن تتقلص فلا بد من اقناع جيل الآباء أن الولد لن يصغي فعلاً إلى شروحاتهم، ولن يقتنع بها كما ينبغي إذا لم يحاولوا رؤية الأمور بالطريقة التي يراها بها هو، والتي قد تختلف عن رؤيتهم، فإذا بذلوا هذا المجهود الذي لا يستقيم حوار من دونه، فإنهم يوقظون لدى الولد استعداده للانفتاح على ما يحاولون افهامه إياه وما يطلبونه منه، وهذا يُذكّرني بمثل سنسكريتي يقول: (إن الزورق الذي يقوده الأب والابن لن يغرق).
ومن الملاحظ بأن حركات الشباب في مختلف أنحاء العالم إنما هي حركات احتجاج على احتكار الأجيال القديمة، ومنهم الآباء، السلطة واستئثارهم بتسيير دفة الأمور، وتجاهلهم لحاجات ومطالب الأجيال الجديدة ومفاهيمها ومُثلها، وقد برزت هذه المسألة في عهد النهضة في البلدان الأوروبية كإشكالية تربوية عبَّر عنها جيلبيرت ماباي بقوله: (على الذين يريدون أن يفهموا جيداً العلاقة بين الأب وابنه أن يستوعبوا عنصراً أساسياً ألا وهو: (أن الأب يحيا حياة جديدة من خلال ابنه). لذلك لا بد على جيل الآباء الاقتناع بأن الحياة لن تعود إلى ما كانت عليه سابقا بل يجب عليهم أن يسعوا إلى فهم الجيل الجديد وفهم تطلعاته وميوله الجديدة التي تحقق له نوعا من الرضا والسعادة. ومن الأفضل أن يشدّ الآباء أولادهم نحوهم  بالاحترام والرقة بدلاً من الخوف والسلطة ولا بد من الاشارة هنا إلى أن السلطة لا ترتبط حكماً بالوظيفة أو بالسن إنما ترتبط بالمعرفة، والمعرفة لا شأن لها بالسن لأنها تتطور باستمرار، بحيث إن الأجيال الجديدة تعرف الكثير مما لم يتعلمه الكبار، وخاصة إذا كان هناك تفاوت في المستوى العلمي بين الآباء والأبناء. كما يجب على جيل الأبناء أن يراعي الفوارق الفكرية ويساهم في تقليص هذه الفجوة بالسعي الدائم في ايضاح اهتماماته الجديدة بطريقة مقنعة تلفت انتباه جيل الآباء والأجداد, فنحن أيضا من ساهم في اتساع هذه الفجوة الفكرية لأننا لم نتبنى التطور والتقدم التقني بطريقة صحيحة  فالكثير منا انغمس في حالة من العزلة التي أبعدته عن الحياة الاجتماعية وعن تجمعات الأهل والأصحاب وكأن العالم الافتراضي هو العالم الحقيقي الذي يجب أن نعيش فيه. وهذا ما يجعلني أتساءل دائما كيف لجدتي الأمية التي عاشت في زمن لم يكن فيه ضوء مصباح واحد أن تتقبل فكرة أن يجلس جميع من حولها وهم منشغلون بأجهزة الهواتف الذكية التي تحوي العديد من التطبيقات التي تلهيهم عن أبسط أنواع الحوار مع من حولهم!!.
وقد أكد جون ديوي بقوله:- "إن وجود المجتمعات وبقاءها واستمرارها يتوقف على عملية النقل الثقافي, وهذا النقل يتم بانتقال العادات والتفكير من الكبار إلى الناشئين فبغير انتقال المثل العليا والآمال لا يمكن لحياة جماعية ان تدوم", وبالتالي فإن الاتساع القائم بين هذين الجيلين في عملية تقبل الأفكار والتواصل بشكل منطقي يمكن تضييقه عبر الحوار الراقي الذي يتيح للشباب فرصة صنع عالم إيجابي, ولجيل الآباء فرصة تطوير أنفسهم عبر الاطلاع والتثقيف عن كل ما يطرأ على مجتمع أبنائهم حتى يحاكوهم فكريا ويجعلوا لهم فرصة بناء مجدهم الخاص وليس فقط التغني بأمجاد أممهم السابقة وحتى يكون هذا الصراع انسجامي وليس تأزمي.
 
لا أريد في ختام حديثي أن أُحمِّل المسؤوليات لجيل الكبار، عمّا آل إليه هذا العمق في الفجوة بين الأجيال، فالأمور وصلت إلى ما وصلت إليه في غفلة منهم أو بدافع التقليد غير المتبصر الذي تقبلوه وشجعوا عليه، فرحبوا بكل ثقافة وافدة معجبين بها، وكأن حضارتنا ليس لها عمق ولا آثار، وتصوروا أن حضارة الغرب ستمدنا بترياق الحياة الذي يشفي عللنا!!.وفي المقابل بعضا منهم تمسكوا برأيهم وفكرهم ولم يصغوا إلى جيل الأبناء وصادق جبران خليل جبران على هذا بقوله: "إن أولادكم ليسوا لكم.. إنهم أبناء أشواق الحياة وبناتها، وهم إن كانوا معكم ليسوا لكم.. وأنتم تستطيعون أن تعطوا أولادكم محبتكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تلقنوهم أفكاركم.. لأن لهم أفكارهم.. ولكم أن تكونوا مثلهم.. وليس لكم أن تجعلوهم مثلكم.. إن الحياة لا ترجع إلى الوراء.. ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس..".
أميمة اليعقوبي
Twitter:@OM_Alyaqoobi